قناة السويس بعد غزة- خسائر الحرب وآفاق التعافي التدريجي

بعد مرور حوالي سنة وأربعة أشهر عصيبة، شهدت خلالها غزة ويلات الإبادة، هدأت أصوات المدافع، وتطلعت مصر، ومعها العديد من دول العالم المهتمة بحركة التجارة العالمية، صوب عودة الحياة إلى طبيعتها في قناة السويس.
ففي أعقاب ثلاثة أسابيع من العمليات العسكرية الإسرائيلية على القطاع في شهر أكتوبر من العام 2023، بدأت جماعة أنصار الله الحوثية في عرقلة الملاحة البحرية في منطقة باب المندب، وذلك بهدف منع السفن المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية عبر خليج العقبة والبحر الأبيض المتوسط من إكمال مسيرها. ومع مرور الوقت، تحول هذا الأمر إلى ما يشبه فرض حصار شبه كامل على الحركة في هذا الممر الملاحي الاصطناعي الذي يعد الأكثر شهرة على مستوى العالم.
ومع توقف إطلاق النار، من المتوقع أن تعود الحركة في القناة تدريجيًا إلى سابق عهدها، وذلك بعد أن تكبدت مصر خسائر فادحة، خاصة وأنها تعتمد بشكل كبير في توفير العملات الأجنبية، التي تعتبر بمثابة الشريان الرئيسي لعمليات الاستيراد من الخارج، على المصادر التقليدية المدرة لتلك العملات، والتي تتضمن الصادرات السلعية، وقطاع السياحة، وتحويلات العاملين المصريين في الخارج، وقناة السويس.
وقد تجلى التأثير الكبير الذي طال بعض هذه المصادر نتيجة للأوضاع الداخلية والخارجية، على غرار ما حدث إبان أزمة كوفيد-19 العالمية، وقبلها أحداث 25 يناير 2011، وأحداث 30 يونيو 2013 في مصر.
وفي فترة تأثر قناة السويس بالأحداث الدامية في غزة، تكبدت مصر والعالم خسائر تقدر بنحو 11.5 مليار دولار، موزعة على النحو الآتي:
- وفقًا للمصادر الرسمية المصرية، خسرت مصر ما يقارب 7 مليارات دولار، وهو ما يعادل، وفقًا لتصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حوالي 60% من إجمالي إيرادات القناة.
- أما الملاحة العالمية، التي عانت من تحويل مسار السفن عبر طريق رأس الرجاء الصالح، فقد تكبدت خسائر تقدر بنحو 4.5 مليارات دولار.
وفي تفاصيل أعمق، ووفقًا لبيانات صحيفة "لويدز ليست" المتخصصة في رصد حركة الشحن البحري العالمية، فقد خسرت قناة السويس خلال فترة الحرب على غزة إيرادات عبور ما يقارب 12,305 سفينة اختارت سلوك الطريق الأطول عبر رأس الرجاء الصالح. وقدرت بورصة لندن أن متوسط تكلفة الرحلة الإضافية، والتي تعزى بشكل أساسي إلى ارتفاع تكاليف الوقود، بنحو 932,905 دولارات لكل رحلة، وهو ما يرفع إجمالي الخسائر إلى حوالي 11.5 مليار دولار.
ومن الجدير بالذكر أن القناة شهدت عبور ما يقارب 1,591 سفينة عشية بدء العمليات العسكرية في غزة، وذلك خلال شهر نوفمبر من العام 2023. وكانت الخسائر التي تكبدتها القناة خلال فترة الحرب في أوجها خلال شهر سبتمبر من العام 2024، حيث عبرت القناة خلاله 614 سفينة فقط، وذلك وفقًا لبيانات الجهاز المركزي المصري للتعبئة العامة والإحصاء.
أما أعلى إيرادات حققتها القناة في تاريخها، فقد كانت قبيل اندلاع الحرب على غزة مباشرة. فوفقًا لبيانات البنك المركزي المصري، فقد سجلت القناة أعلى إيرادات لها في العام المالي 2022/2023، حيث بلغت 9.4 مليارات دولار أمريكي.
في ذلك العام، ووفقًا للمصدر نفسه، بلغت إيرادات قطاع السياحة وتحويلات المصريين العاملين في الخارج، على التوالي، 13.6 و22.1 مليار دولار. وبذلك، بلغت نسبة إيرادات القناة من إجمالي العملات الأجنبية حوالي 21%. وإذا أضفنا إلى ذلك عائد الصادرات، والذي بلغ 39.62 مليار دولار خلال الفترة نفسها، على الرغم من أن العائد تحول إلى عجز بسبب ارتفاع قيمة الواردات، والتي قاربت حينها 71 مليار دولار، نجد أن نسبة إيرادات القناة من إجمالي مصادر العملات الأجنبية المذكورة آنفًا تبلغ حوالي 11%.
وقد صرح زعيم جماعة أنصار الله الحوثية، عبد الملك الحوثي، تعليقًا على نبأ وقف إطلاق النار في غزة قائلًا: "سنظل في متابعة دقيقة لمراحل تنفيذ الاتفاق، وأي تلكؤ إسرائيلي أو مجازر أو حصار، سنكون على أهبة الاستعداد لتقديم الدعم العسكري المباشر للشعب الفلسطيني".
وهذا الأمر يعني أن كافة الاحتمالات لا تزال قائمة، وهو ما يبرر العودة التدريجية المتوقعة لعمل القناة، وذلك نتيجة للعودة المتباطئة لشركات الملاحة إلى استئناف أنشطتها.
وبناءً على ذلك، فإنه من المرجح أن الخسائر المصرية والعالمية لن تتوقف بمجرد انتهاء الحرب، لأن شركات الملاحة ذات النشاط الدولي ستعاود استخدام القناة بصورة تدريجية، وذلك بعد أن تتأكد من أن جماعة أنصار الله الحوثية في اليمن لن تعود إلى الرد على العدوان الإسرائيلي على غزة.
إن عودة القناة إلى العمل بكامل طاقتها الإنتاجية ستتحقق على الأرجح في النصف الثاني من العام 2025، وذلك بعد التأكد من الوقف الكامل والجدي لإطلاق النار، وبعد أن تتوقف إسرائيل عن الرد على اليمن باستهداف منشآته المدنية، على غرار ما حدث في المرات الأربع السابقة.
ومما لا شك فيه أن شركات الملاحة لن تفكر في العودة لمجرد وقف إطلاق النار فحسب، بل ستقوم أيضًا بتقييم العودة من منظور اقتصادي لا يبتعد كثيرًا عن المنظورين الأمني والسياسي. ويُقصد هنا تقييم العودة بالنظر إلى تكلفة التأمين المرتفعة، وليس فقط اختصار الوقت المقدر، وفقًا لما صرح به أسامة ربيع، رئيس شركة قناة السويس، بما يتراوح بين 9 و14 يومًا إضافية.
وفي هذا السياق، قد يكون من المناسب استعراض تصريحات شركات الخطوط الملاحية، ومنها، على سبيل المثال، ما ذكره مصدر في الخط الملاحي السويسري "إم إس سي"، حيث أشار إلى أن الشركة تناقش في هذه الأيام آليات العودة للعبور في منطقة البحر الأحمر من عدمه، وأن هناك مقترحات بعبور عدد محدود من السفن التابعة للشركة، وذلك بهدف اختبار جدية بيان جماعة الحوثي، مع الإشارة إلى وجود تخوف من تجدد العمليات الحربية في منطقة البحر الأحمر مرة أخرى.
ومما لا شك فيه أن اتخاذ قرار العودة بتأنٍ وروية هو أمر سينعكس بالإيجاب على كافة الأطراف المعنية، فشركات الملاحة والشحن والتفريغ والوكالات التجارية وعملاؤهم من المصدرين والموردين، جميعهم يستفيدون من انخفاض زمن الرحلة البحرية عبر قناة السويس، وبالتالي وصول بضائعهم في التوقيت المناسب، ووفقًا لشروط العملاء، وقبل أن تتعرض بعضها للتلف.
ومن المؤكد أن قيمة قناة السويس ستتعزز بشكل كبير بفضل تقليل وقت الرحلة بصورة إضافية، وذلك بعد التوسعة الأخيرة التي شهدتها القناة إبان الحرب على غزة، والتي ساهمت في ازدواج الخط الملاحي في منطقة البحيرات المرة الصغرى.
وبالتوازي مع ذلك، ستشعر مصر بارتياح بالغ، خاصة في ظل التوقعات بعودة إيرادات القناة إلى الارتفاع. وهنا، من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه كان من المتوقع، لولا الحرب، أن يصل متوسط الدخل السنوي خلال العام 2024 إلى 12 مليار دولار.
كما أنه من المتوقع حدوث انخفاض أكبر في معدلات التضخم، والذي بدأ بالفعل في التراجع قبل أسابيع قليلة من انتهاء الحرب، وتحسن وضع الميزان التجاري وميزان المدفوعات، وزيادة حجم الاستثمارات حول القناة شرقًا وغربًا في أعقاب زيادة معدلات الحركة الملاحية، وانخفاض تدريجي في معدلات الفائدة المرتفعة في البنوك، مما يدفع الأفراد إلى البحث عن فرص استثمارية أفضل، وتحسين موقع الاقتصاد المصري في مؤشرات الاقتصاد الدولي، خاصة بعد النجاح في سداد الديون وخدمة الديون، وارتفاع متوقع في احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي.
وهكذا أظهرت الأحداث مدى أهمية قناة السويس، وعدم وجود أي بديل مناسب يمكن أن يحل محلها، سواء كانت تلك البدائل هي مشروع خط الحزام والطريق الذي تتبناه الصين، أو الخط المقترح الرابط بين الهند وإسرائيل مرورًا بالإمارات والسعودية والأردن، أو المشروع الرابط بين الهند وروسيا مرورًا بإيران، أو الخط الروسي البحري الرابط بين مضيق بيرينغ وبحر البلطيق عبر القطب الشمالي.
فالخطوط الثلاثة الأولى تعتمد بشكل أساسي على السكك الحديدية في جزء أو أغلب مراحلها، وهو أمر غير فعال، لأن القطار الواحد لا يستطيع حمل أكثر من 120 حاوية، في حين أن السفينة الضخمة الواحدة قادرة على استيعاب أكثر من 20 ألف حاوية.
أما الخط البحري الروسي عبر المحيط المتجمد الشمالي، فيواجه صعوبات جمة بسبب الجليد الذي يغطيه معظم فترات العام. وقد تبين قبل الحرب على غزة أن أقصى حمولة تم نقلها عبر هذا الخط بلغت 34 مليون طن من البضائع، مقارنة بمرور 1.5 تريليون طن في قناة السويس خلال الفترة نفسها، وذلك على متن 25,887 سفينة.